عن إمكانات الصومال المهدورة

عندما يذكر الإعلام الدولي الصومال، تبرز صورة نمطية مختزلة في الجفاف والنزاعات والمجاعات، لكن هذه الصورة القاتمة تخفي واقعاً أكثر تعقيداً وإمكانيات هائلة. فالصومال الذي يعاني اليوم من انعدام الأمن الغذائي هو نفسه البلد الذي يمتلك أطول ساحل في إفريقيا، وثروة سمكية تعد من بين الأغنى في المحيط الهندي، وموارد طبيعية كامنة يمكن أن تغير خريطة الاقتصاد الإقليمي.
تمتد سواحل الصومال لأكثر من 3300 كيلومتر تطل على ممرات ملاحية عالمية، لكن هذه الميزة الاستراتيجية تتحول إلى نقمة بسبب غياب الرقابة البحرية، مما يجعلها عرضة للصيد الجائر من قبل سفن أجنبية. وتشير تقديرات منظمة الفاو إلى أن الصومال يفقد سنوياً مئات الملايين من الدولارات بسبب الصيد غير القانوني، في وقت يعاني فيه ملايين الصوماليين من نقص الغذاء. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: بلد يغرق في المجاعة بينما تُنهب ثرواته البحرية أمام أعين الجميع.
ولا تقتصر الثروات الصومالية على ما في البحر، فالأرض تحتوي على إمكانات لا تقل أهمية. فالصومال يمتلك واحداً من أكبر قطعان الماشية في المنطقة، حيث يقدر عدد رؤوس الإبل والماعز والأغنام بأكثر من 15 مليوناً، وهي ثروة حيوانية تشكل مصدر دخل رئيسي للعديد من الأسر. لكن غياب البنية التحتية المناسبة من مسالخ حديثة ومراكز بيطرية وطرق نقل يجعل هذه الثروة غير قادرة على تحقيق عوائد مالية جيدة.
الأمر الأكثر إثارة هو ما كشفته الدراسات الجيولوجية الحديثة عن وجود احتياطيات كبيرة من النفط والغاز، خاصة في المناطق الشمالية والساحلية. وقد بدأت هذه الإمكانات تترجم إلى اتفاقات فعلية، أبرزها الشراكة مع تركيا للتنقيب في المياه العميقة. لكن التاريخ الأفريقي يحذر من “لعنة الموارد”، حيث تتحول الثروات الطبيعية من نعمة إلى نقمة عندما تدار بشكل سيء. وهذا يطرح سؤالاً مصيرياً: هل سيتمكن الصومال من تجنب هذا المصير؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من فهم جذور الأزمة الصومالية التي تعود إلى انهيار الدولة المركزية عام 1991. فمنذ ذلك الحين، دخل البلد في دوامة من الصراعات المسلحة وغياب الاستقرار السياسي، مما أفقد المؤسسات قدرتها على إدارة الموارد. وأضيف إلى هذا التحدي السياسي تحديات بيئية كبيرة، حيث أصبح الصومال أحد أكثر البلدان تأثراً بالتغير المناخي، مع تكرر موجات الجفاف الشديدة والفيضانات المدمرة التي تدمر المحاصيل وتقتل الماشية.
في خضم هذه التحديات، تبرز مصالح متناقضة. فمن ناحية، هناك شبكات محلية ودولية تستفيد من استمرار حالة عدم الاستقرار، سواءً كانت جماعات مسلحة تفرض إتاوات، أو شركات أجنبية تنهب الثروات دون رقابة. ومن ناحية أخرى، هناك جيل جديد من الصوماليين، خاصة في الشتات، يطمح إلى تغيير هذه الصورة عبر الاستثمار في التعليم وريادة الأعمال.
المخرج من هذه المعضلة يتطلب رؤية متكاملة. فمن الضروري أولاً بناء مؤسسات قوية قادرة على إدارة الموارد بشفافية، مع وجود آليات رقابية تمنع الفساد. وثانياً، يجب استثمار جزء من عائدات الثروات الطبيعية في تنمية القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والثروة الحيوانية، بدلاً من الاعتماد على المساعدات الخارجية. كما أن تطوير التعليم والرعاية الصحية سيمكن الأجيال القادمة من قيادة عملية التنمية.
ولا يمكن إغفال البعد الإقليمي والدولي. فالصومال بحاجة إلى شراكات استراتيجية تحترم سيادته وتدعم استقراره، سواء مع جيرانه الأفارقة أو مع دول مثل تركيا التي أظهرت استعداداً للاستثمار في مختلف القطاعات. وفي الوقت نفسه، على المجتمع الدولي تحمل مسؤوليته في وقف استنزاف الثروات الصومالية، سواء عبر الصيد الجائر أو الاتفاقات التجارية غير المتوازنة.
ختاماً، الصومال أمام مفترق طرق وعرة. فإما أن يستمر كقصة عن الأزمات والمجاعات، أو يتحول إلى نموذج للنهوض من بين الركام. القرار ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، وإدارة رشيدة للموارد، ودعم دولي مسؤول. الثروات موجودة، والإمكانيات حاضرة، والسؤال الآن هو: هل ستتوفر الشروط اللازمة لتحويل هذه الإمكانيات وترجمتها إلى واقع ملموس؟ المستقبل وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن الصومال يستحق أكثر من أن يظل مجرد عنوان للأزمات في نشرات الأخبار.