الرئيسيةمقالات

مقديشو ..مدينة الخيال والجمال

حين تُعَدِّد العواصمَ الإفريقية العريقة، سوف تأتي مقديشو واحدةً من أعظمها تاريخًا، وأهمها موقعًا، وأغناها تراثًا. إنها جوهرة القرن الإفريقي ولؤلؤته، وعاصمة الصومال وحاضرته. رمز السحر وعنوان الجمال، تغمر قصَّادها بالدفء والحب، وتحيطهم بالبِشر والأمن.

يذكر المسعودي المؤرخ أن تأسيسها يرجع إلى المهاجرين العرب قبل القرن الرابع الهجري، ومنذ ذلك الوقت، وإلى يومنا هذا، وهي شاهدةٌ على إندثار ممالك وأزدهار أخرى، وظهور سلطناتٍ وزوال دول. لكنها ظلت باقية صامدة، تهزأ بالطغاة، وتتحدى المستعمرين، وتنجو بنضالها المستمر من سيطرة الدخلاء والمغتصبين. وررغم ما طرأ عليها من نظم مستبدة وديكتاتورية، ظلت مقديشو، كما لا تزال، من أكثر العواصم الإفريقية نظامًا وأمنًا.

تأخرت زيارتي لها كثيرًا، فمنذ فترةٍ طويلةٍ وأنا أؤجل موعد لقائي بها. كنت أحس بأنني لا بدَّ أن أكون مستعدًّا لما سوف أراه من جمالٍ تلك الدرة التي يحتضنها المحيط الهندي ويطوقها، فيزيدها باحتضانه لها جمالًا وألَقًا.

وأخيرًا التقينا، واستقبلتني الحسناءُ السمراءُ بكل حفاوة وترحاب، مِن البوابة الاولي بمطار مقديشو الدولي ثم لقاء الاصدقاء والأصحاب فالتوجه إلى فندق الجوهرة بحي ( *زوبي) العريق .

كم أنتٍ صامدةٌ ومدهشةٌ يادرة القرن الأفريقي. وجدت فيكِ ما لم أجده في أرقي العواصم إلتي زرتها حيث بساطة طبعٍ، وبشاشة وجهٍ، ووكرم ضيافة.

ومقديشو ليست مجرد تاريخ يُدرس، أو قصة تحكَى، أو ماضٍ يُستعاد. إنها حاضر يذهل من يراه، وواقعٌ يدهش من يتصل به. وثقافة تبهر كل من يعرفها أو يدرسها. ولقد تذكرت حين التقيت إخواني هناك ما كنت قد قرأته عن مكانة اللغة العربية وأهميتها في نفوس الصوماليين، وعرفت لماذا تنتشر (الدُّكسيات) التي تعلم الأطفال القرآن الكريمَ والكتابة بالحروف العربية في أنحاء الصومال كله، رغم محاولات المحتلين الأجانب في فترات التاريخ المختلفة كي يقطعوا صلة الصوماليين بلغتهم ودينهم.

وفي مقهي سمر كأنت اللوحة الجميلة ليلة تدشين رواية (عزيز) التي أعتز بأنني تناولت فيها قصةً من قصص النضال الإفريقي، بحضور البرلماني بروفيسور طلحة والدبلوماسي محمد عيسي، وزمرة من المثقفين من أصحاب المعارف الموسوعية العميقة، وعدد كبير من حملة الشهادات العليا، فكانت ليلة عرس إفريقية الملامح والهوية.

ما أجملك يامقديشو وأنتِ تستقبلين الجميع في ثوبك الرائع..

وفي حي وإبري حيث الصوفيّة تتأصل هنا، ويدور مابين مثقف ومثقف حوار له الف معني، وعبق التاريخ يشهد على تلك اللحظة التي تتجول فيها فترى مقاهي عتيدة تتوسط الطرقات ومسجد يحكي عظمة الزمان. وأينما تجولت لاتسمع إلا الكلام العذب، والحديث النافع، والنكة النادرة: هذا يحدثك عن الخرطوم الصامدة الشامخة، وذاك عن جولاته العابرة للقارات؛ وثالث عن أدب الصومال وثقافته… فما أروع تلك الجلسات.

وفي شاطي المحيط الهندي بمقديشو مساحات للهو واللعب والتسلية فهذا يسبح وذلك يدفن جسده وسط الرمال، وهولاء يركبون الزوارق. هنا تقضي يومك وسط الجميع مبتهجًا.

أمَّا ما يؤسفني حقًّا، فهو أنني مضطرٌّ إلى أن أترك هذا كله لأعود إلى عملي وأسرتي، وإن كنت على ثقة بأن حنيني وحبي، سوف يعودان بي إلى شطآنها ذات يوم. وعساه يكون قريبًا

هاشم محمود

روائي إرتري من مواليد عام 1976م، صدرت له حتى الآن سبع روايات منها «عطر البارود» الفائزة بجائزة أفضل رواية أفريقية باللغة العربية للعام 2019 في مهرجان القاهرة، «وفجر أيلول» الفائزة بجائزة توليولا الإيطالية العالمية و«الطريق إلى أدال» و «كولونيا الجديدة» وغيرها.
زر الذهاب إلى الأعلى