مقالات

القرن الإفريقي والخليج العربي: روابط لم تُستثمر بعد

 

يوافق الـ18 من ديسمبر/ كانون الأول اليوم العالمي للغة العربية، وقد تابعت احتفالات بهذه المناسبة خلال الأيام الماضية في كل من جيبوتي ومقديشو العاصمتين العربيتين في  القرن الإفريقي الذي يضم كلا من إثيوبيا وإرتيريا وجيبوتي الوطن والصومال وفق المفهوم الجغرافي التقليدي  لهذه المنطقة المهمة، ثم تبادر إلى ذهني تساؤلات من بينها أسباب ضعف انتشار اللغة العربية في هذه البقعة القريبة جدا من الجزيرة العربية ودول الخليج العربي، وانعدام التفاعل والتواصل على مستوى الشعوب بين الجانبين على الرغم من التقارب الجغرافي والثقافة المشتركة والتبادل التجاري عبر البحار على مدى التاريخ  وكذلك التداخل  الإنساني.

إن العلاقات بين منطقتي القرن الإفريقي والخليج العربي قديمة تاريخيا كما أنها إستراتيجية إذا أريد لها أن تكون كذلك، لكن الغريب أن تلك الروابط لم تُستثمر بعد في بناء تعاون حقيقي وتواصل فعلي يربط بين شعوب ضفتي البحر الأحمر على الرغم من وجود عوامل إيجابية كثيرة تعززها روابط التاريخ والجغرافيا.

يرى بعض المؤرخين أن الجزيرة العربية، وفي مركزها دول مجلس التعاون الخليجي، كانت متصلة جغرافيا بالقرن الإفريقي أو إفريقيا بشكل عام، وأن الانفصال العضوي جاء بعد ظهور   البحر الأحمر وخليج عدن قبل  نحو ثلاثة ملايين سنة قبل الميلاد نتيجة لانفلاق جيولوجي، وذلك تأصيل لقدم ارتباط هاتين المنطقتين المهمتين، إضافة إلى أن العربية لغة سامية، كما أن اللغة الأمهرية الأكثر انتشارا في إثيوبيا هي أيضا سامية، وجدير بالذكر أن المؤرخين منقسمون بشأن ما إذا كانت اللغات السامية ظهرت أولاً في إثيوبيا قبل أن تنتقل إلى الجزيرة العربية أو العكس، حسب ما أشار إليه الدكتور علي مزروعي في نموذجه “أفرابيا” عن العلاقات التاريخية والجغرافية المستمرة بين الجزيرة العربية وقارة إفريقيا من خلال بوابتها المتمثلة بمنطقة القرن الإفريقي.

سواء أكانت المنطقتان متصلتين جغرافيا في قديم الزمان أم لا، فإن الجوار والصلات التجارية عبر البحار والرحلات الدينية لأداء الحج والعمرة وزيارة الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، كلها عوامل كفيلة بالتواصل الثقافي وترسيخ أرضية مشتركة بين شعوب المنطقتين المذكورتين، تنعكس على مختلف المجالات، لكن معطيات الواقع المعيش تشير إلى ضعف في التواصل بين أبناء ضفتي البحر الأحمر، وهو أمر ينبغي بحث أسبابه.

كثيرا ما يتساءل المهتمون عن الغياب الإعلامي لمنطقة القرن الإفريقي أو ضآلة وجودها على أجندة وسائل الإعلام العربية والخليجية على الرغم من أهمية منطقتنا الاستراتيجية التي تطل على البحر الأحمر ومضيق باب المندب  وتشكل في الوقت نفسه بؤرة توترات ساخنة يفترض أن تتصدر الأخبار، ولكن الإجابة على تساؤل كهذا ينبغي أن يكون في شكل سؤال آخر على النحو الآتي: هل القرن الإفريقي من اهتمامات المشاهد العربي والخليجي؟  وهل ثمة لغة تواصل واهتمامات مشتركة بين الخليجيين وأبناء وبنات القرن الإفريقي؟

ربما كانت تغطيات القرن الإفريقي في الإعلام الإخباري الخليجي في أحسن حالاتها نسبيا أثناء الأزمة الخليجية خلال الفترة (يونيو 2017- يناير 2021) بسبب الاستقطاب الشديد الذي شهدته المنطقة، ولكنها سرعان ما تراجعت بعودة الأمور إلى مجاريها الطبيعية بين الأشقاء الخليجيين.

وعلى سبيل المثال لوحظ خلال تلك الفترة اتجاه إيجابي في تغطيات قناة الجزيرة للصومال، إذ بثت خلال فترات متعاقبة تقارير ميدانية عن انتعاش الحركة العمرانية والتجارة والأنشطة الترفيهية في السواحل والحدائق العامة والتطور التقني والنهضة التعليمية وحفلات التخرج الجامعية في مقديشو، وكذلك انتشار مطاعم الوجبات السريعة فيها، مما دل على توجه إيجابي لإبراز الوجه الآخر للصومال، غير المرتبط بالعنف والحروب، وهو ما يمكن تفسيره بالتقارب الصومالي القطري ومساندة مقديشو للدوحة في أصعب أيامها منذ بزوع فجر الألفية الثالثة.

وأما حرب لاسعانود التي استمرت نحو ثمانية أشهر خلال عام 2023 وأسفرت عن مئات القتلى والجرحى ونزوح أعداد هائلة وتدمير واسع للبنى التحتية وانفصال منطقة سول عن جمهورية أرض الصومال المعلنة من طرف واحد، فلم تصل إلى المتابع العربي، وهذا دليل على أن المنطقة لا تحظى بأي أهمية إخبارية في الإعلام العربي، ولا غرابة في ذلك إذا سلّمنا بأن اهتمامات الجمهور المستهدف تعدّ من أهم القيم الإخبارية.

يشمل القرن الإفريقي في مفهومه التقليدي، كما سبق ذكره، أربع دول هي: إثيوبيا وإرتيريا وجيبوتي والصومال، وثمة من يضيف إليه السودان وجنوب السودان وأوغندا وكينيا، وأيا كان العدد الفعلي لدوله فإن هناك قواسم مشتركة بينه وبين دول الخليج العربي على رأسها اللغة العربية رغم ضعف انتشارها في بعض دول القرن الإفريقي، والثقافة   الإسلامية والعربية، ولكن القصور في تفعيل هذه الأمور يرجع إلى ما يلي:

_ العلاقات الدبلوماسية بين دول القرن الإفريقي ودول مجلس التعاون الخليجي قائمة على المستوى الرسمي، والتواصل يظل في حدود رسمية، ومن ثمّ فإن المواطن العادي قد لا يدرك ما الذي تعني له المملكة العربية السعودية، (سوى أنها بلاد الحرمين الشريفين طبعا) أو قطر أو الكويت والإمارات وما تقدمه إلى بلاده من دعم أخوي في مجال أو مجالات معينة.

_الصورة السلبية في الإعلام العالمي التي تربط منطقة القرن الإفريقي بالحروب والصراعات والقلاقل الأمنية، وهو ما كرسته أيضا الفضائيات العربية على مدى أكثر من عقدين دون تغيير، وربما أتى ذلك من خلال الاعتماد على مصادر أجنبية.

_ غياب التواصل المجتمعي من خلال الفعاليات الثقافية وتبادل الزيارات.

_ القصور في التعريف بالقرن الإفريقي وتحسين صورته، وتلك مسؤولية أبنائه وبناته.

_ على المستوى البحثي والتقارير الأمنية التي تصدرها المراكز الخليجية عن القرن الإفريقي فإنه يتم التعامل معه على أنه ثغرة أمنية يجب سدّها أو عمق خليجي استراتيجي ينبغي الاهتمام به وفق المصلحة.

إن الوجود الخليجي في القرن الإفريقي قديم، ومن المعلوم أن المملكة العربية السعودية بثقلها السياسي والديني والاقتصادي كانت سباقة إلى هذا الأمر من خلال اهتمامها القديم الجديد بأمن البحر الأحمر ونشر الفكر السلفي وتمويل الدعاة وتوفير المنح الدراسية لأبناء القرن الإفريقي، إلى جانب الدعم التنموي، ثم تأتي الكويت   والإمارات العربية المتحدة، بينما عززت قطر وجودها في المنطقة من بعد عام  2000 وربما تفوقت في مسارات معينة بفضل ذكائها الإعلامي، ولكن أغلب ما سبق محصور في الجانب الرسمي بين الحكومات  وبخاصة حين يتعلق الأمر بالتمويل والمنح والقروض، بينما اتسم التواصل مع الدعاة وخريجي الجامعات السعودية ومن سار على نهجهم بالطابع النخبوي الفئوي، ومن الطرائف أن الشماغ الأحمر السعودي التقليدي ظل فترة من الزمان علامة على أهل التدين في بلداننا،  وذلك خلط واضح بين العادات والتعاليم الدينية.

في الختام، ثمة قواسم مشتركة كثيرة بين القرن الإفريقي والجزيرة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي بالتحديد، وحتماً لن تكون تلك المشتركات أقل مما يربط بين شعوب دول الاتحاد الأوروبي،  وقد آن الأوان لمد جسور تواصل شعبي بين ضفتي البحر الأحمر، مبنى على الود الأخوي والاحترام المتبادل وحسن الجوار، عبر تعزيز الدبلوماسية الشعبية واستثمار الإعلام الاجتماعي وما يتيحه من إمكانيات هائلة  لم تتوافر يوماً في الإعلام التقليدي أحادي  الاتجاه الذي ظلم منطقتنا سنين طويلة، أي باختصار: على أبناء وبنات القرن الإفريقي تكثيف الجهود لإعادة التعريف بمنطقتهم ذات الأهمية الشديدة جغرافيا واقتصاديا وسياسيا وتفعيل صلتها بالمحيط العربي.

زكريا حسين

كاتب وباحث وشاعر من جيبوتي، رأس تحرير شبكة الشاهد الإخبارية المهتمة بشؤون القرن الإفريقي ، كما عمل محرر صياغة في القسم السياسي بصحيفة الوطن السعودية قبل أن يلتحق بالدبلوماسية. مؤلف كتاب Wariye في التحرير الإعلامي باللغة الصومالية.
زر الذهاب إلى الأعلى